عند مقارنة سرعة وسهولة الحصول على المعلومة في ما يتعلق بالثورة المعلوماتية بما كان يحدث في هذا الشأن قبل عشر سنوات سنجد هناك إختلافاً كبيراً، ليس فقط في وجود شبكة الإنترنت في حد ذاتها، وإنما في التطور الذي حدث في الأدوات والمواقع التي أنشئت عليها وقدرتها على خلق واقع إفتراضي غير مألوف للبشر من قبل. جعلت الملايين منهم يبلورون نطاقاً آخر للتفاعل يمكن تسميته مجازاً "المجتمع المدني الافتراضي" بخلاف النطاق الإجتماعي التقليدي كاسرين في ذلك حاجز الزمان والمكان بنقل المعلومة أو الرسالة في نفس لحظة حدوثها من أقصي الكرة الأرضية إلى أدناها. ونتيجة لذلك أخذ عصر حجب المعلومات والصندوق الأسود للمجتمعات يتراجع للوراء ليفسح المكان لعصر التفاعل والتعامل مع هذه الثورة المعلوماتية بشكل فيه قدر من الشفافية.
وكان هذا الواقع الجديد يثير الكثير من القضايا الإشكالية، على مدار السنوات الماضية، بالأخص في المجتمعات التي توجد فيها قيود إجتماعية وسياسية. هل يعد هذا التطور تدخلًا في قضايا السيادة الوطنية التي تعارفت عليه الدول على مدار العقود الماضية؟ فالنقلة التي أحدثتها الفضائيات وعالم الإنترنت في نقل واستقبال المعلومة خلقت تحدي لهذا المفهوم بشكله القديم، فلم يعد هناك ما يمكن إخفاؤه! وتأكد ذلك بشكل عملي وواقعي في الثورات العربية التي كسرت مفهوم السيادة بشكلها التقليدي وباتت، عبر الفضاء الإكتروني، تسبح مع العالم الآخر بكونها باتت صانعة معلومة في نفس الوقت الذي تستعلم عما يحدث من حولها في العالم حتى مع هيمنة وإستبداد النظام في عزلها وخنقها. وتحولت هذه الوسيلة ليس إلى أداة لإختراق الأمن والسيادة الوطنية وإنما أداة في خدمة السيادة الوطنية بكونها تخلق نوعاً من رقابة "الرأي العام" في كشف أي فساد داخل النظام السياسي أو المجتمعي، فلولا هذا الواقع ما سمع أحد عن الثورة في سوريا التي إذا كان النظام إستطاع أن يعزلها إعلامياً عن العالم إلا إنه عجز أن يهيمن على الإنترنت والهواتف النقالة التي حلت كاميراتها محل الكاميرات الإعلامية لتسجل وتوثق جرائم النظام.
وبالتالي مجتمعات الصندوق الأسود إزاء هذا التطور لم تعد موجودة غير في عقلية نخبتها الغارقة في المشاكل التي تعوق عملية انتقالها الى الديمقراطية ، بالإضافة إلى أن هذه الأدوات أصبحت فاضحة لحالات الفشل التنموي المرتبط بالفقر والفساد الاجتماعي والسياسي للكثير من هذه الدول عندما تضعها التقارير الدولية في وضع مقارن مع غيرها من الدول الأخرى في العالم ، فتأتي النتيجة في غير صالحها بإحتلالها مراتب متأخرة مع الدول المتخلفة. ومن هنا تبدأ إشكالية الصدام بين نظم سياسية ترفض الاستجابة للواقع بحجة مفهوم السيادة بشكلها القديم وبين هذه التطورات التي حدثت في وسائل التواصل ونقل المعلومات. وكان التطور الطبيعي لوجود هذين الواقعين في المجتمعات العربية مجتمع النخب الحاكمة المنغلقة على نفسها والمجتمع الافتراضي الذي ليس فيه محرمات في تبادل المعلومة، إن الأخير كان بمثابة الأداة التي إستخدمتها هذه المجتمعات لتثورعلى الواقع الذي عزلتها فيه نخبتها الحاكمة بكل ما إرتبط بذلك من مساوئ وإستلاب للحقوق الإنسانية، فكان نجاح كل من ثورتي تونس ومصر في بداية عام 2011 في إسقاط النظام الحاكم بشكل سلمي ليؤكد إنتصار أصحاب هذا الواقع الجديد الكاسر للمفهوم التقليدي للأمن القومي الذي دشنته نخبتها المستبدة على مدارعقود. وباسمه حولت مجتمعاتها إلى صندوق أسود وعجزت أن تطور مفهوماً جديداً للأمن تنتقل به من معناه التقليدي إلى المعنى الحقيقي له على الأرض الذي يبدأ بأمن الفرد والمواطن من تأمين لقمة العيش مروراً بالأمن المجتمعي ثم الأمن الوطني الذي يأتي تتويجاً لضمانة أمن الفرد بالدرجة الأولى. ومن هنا فهذه الثورات على قدر ما إنها قد تكون في شكل منها أقلقت الكثيرين في كونها بتوابعها في عدد من الدول العربية قد خلقت حالة من عدم الإستقرار إلا إنها بطريق آخر كانت بمثابة مفجرة للكثير من الحقائق المرتبطة بالتنظير في العلوم الإجتماعية وفقاً للآتي:
أولاً: الإنتقال بمفهوم الأمن بشكله التقليدي المرتبط بتوظيفات النخب الإستبدادية بالشكل الذي يخدم وجودها وإستمراريتها إلى أمن المكان والمسكن والحياة الكريمة التي تحفظ كرامة الإنسان وترتقي بإنسانيتها وتحترم عقليتها بدون قيود أو سلب لهذه الحقوق. وأصبحت لهذه القضايا أولوية كبيرة عن أمن الصندوق الأسود الذي فك شفرته عصر المعلومات وإنتقلت من وجود المعلومة في حد ذاتها الى نطاق توظيفها التوظيف الأمثل لخدمة الإنسان.
ثانياً: إن التهديد الأساسي لمشكلة مفهوم الأمن القومي للمجتمعات ليس إتاحة المعلومات والحصول عليها وإنما هو الجهل بالمعلومات والعيش داخل الصندوق الأسود في ظل واقع سهولة الحصول عليها من الإنترنت والفضائيات بتنوعها التي جعلها متاحة للجميع . فبات وجود المعلومة في حد ذاتها ليس كافياً وإنما التحليل المرتبط بها للاستفادة منها بمأسسة مراكز مختصة داخل الجامعات وخارجها لتطويرالمناهج العلمية وتقديم دراسات علمية تفيد في حل المشكلات وفقاً لما يتولد من معلومات.
ثالثاً: إن الذريعة المتعلقة بانتهاكات السيادة بتدخلات الخارج سواء في حالة الانتخابات أو حالات إنتهاكات حقوق الإنسان باتت من الأمور ذات الموضة القديمة في ظل الثورة الفضائية والإعلامية التي هي الرقيب الأساسي على ما يحدث من تجاوزات قد تأخذ صورعنف في الشوارع أو صدامات أو غير ذلك، وتنتقل بسرعة عبر أي من وسائل الفضاء الإلكتروني لتكون مرئية للجميع.